فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

روى مسلم عن عُروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأُقِرّت صلاة السفر على الفريضة الأُولى.
قال الزهرِيّ: فقلت لعروة ما بال عائشة تُتمّ في السفر؟ قال: إنها تأوّلت ما تأوّل عثمان.
وهذا جواب ليس بمُوعِب.
وقد اختلف الناس في تأويل إتمام عثمان وعائشة رضي الله عنهما على أقوال: فقال معمر عن الزهري: إن عثمان رضي الله عنه إنما صلّى بمنًى أربعًا لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج.
وروى مُغيرة عن إبراهيم أن عثمان صلَّى أربعًا لأنه اتخذها وطنًا.
وقال يونس عن الزُّهْرِيّ قال: لما اتخذ عثمان الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها صلّى أربعًا.
قال: ثم أخذ به الأئمة بعده.
وقال أيوب عن الزُّهْرِيّ، إن عثمان بن عفان أتَمّ الصلاة بمنًى من أجل الأعراب؛ لأنهم كثروا عامئذ فصلّى بالناس أربعًا ليعلمهم أن الصلاة أربع.
ذكر هذه الأقوال كلها أبو داود في مصنَّفه في كتاب المناسك في باب الصلاة بِمنًى.
وذكر أبو عمر في (التمهيد) قال ابن جريج: وبلغني إنما أوفاها عثمان أربعًا بِمنًى من أجل أن أعرابيًا ناداه في مسجد الخَيْف بمنًى فقال: يا أمير المؤمنين، ما زِلتُ أصلّيها ركعتين منذ رأيتك عامَ الأول؛ فخشي عثمان أن يظن جهال الناس أنما الصلاة ركعتان.
قال ابن جُريج: وإنما أوفاها بِمنًى فقط.
قال أبو عمر: وأما التأويلات في إتمام عائشة فليس منها شيء يُرْوَى عنها، وإنما هي ظنون وتأويلات لا يَصحَبُها دليل.
وأضعف ما قيل في ذلك: أنها أُم المؤمنين، وأن الناس حيث كانوا هم بنوها، وكان منازلهم منازلها، وهل كانت أُم المؤمنين إلا أنها زوجُ النبيّ أبي المؤمنين صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سنّ القصر في أسفاره وفي غزواته وحجه وعُمَره.
وفي قراءة أُبَي بن كعب ومصحفه «النبي أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهُ أُمهاتهُم وهو أبٌ لهم».
وقال مجاهد في قوله تعالى: {هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] قال: لم يكنَّ بناته ولكن كن نساءَ أُمّته، وكل نبيّ فهو أبو أُمّته.
قلت: وقد اعترض على هذا بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مُشَرِّعًا، وليست هي كذلك فانفصلا.
وأضعف من هذا قولُ من قال: إنها حيث أتمّت لم تكن في سفر جائز؛ وهذا باطل قطعًا، فإنها كانت أخوفَ لله وأتقى من أن تخرج في سفر لا يرضاه.
وهذا التأويل عليها من أكاذيب الشِّيعة المبتدِعة وتشنيعاتهم؛ سبحانك هذا بهتان عظيم! وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسِبة تريد أن تطفئ نار الفتنة، إذ هي أحق أن يُستحيا منها فخرجت الأُمور عن الضبط.
وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
وقيل: إنها أتمّت لأنها لم تكن ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزوة.
وهذا باطل؛ لأن ذلك لم يُنقل عنها ولا عُرف من مذهبها، ثم هي قد أتمت في سفرها إلى عليّ.
وأحسن ما قيل في قصرها وإتمامها أنها أخذت برخصة الله؛ لترى الناس أن الإتمام ليس فيه حرج وإن كان غيره أفضل.
وقد قال عطاء: القصر سُنّة ورُخصة، وهو الراوي عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام وأفطر وأتم الصلاة وقصر في السفر، رواه طلحة بن عمر.
وعنه قال: كل ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، صام وأفطر وقصر الصلاة وأتم.
وروى النّسائيّ بإسناد صحيح: أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله، بأبي أنتَ وأُمِّي قَصرتَ وأتممتُ وأفطرتَ وصمت؟ فقال: «أحسنتِ يا عائشة» وما عاب عليّ كذا هو مقيَّد بفتح التاء الأُولى وضم الثانية في الكلمتين.
وروى الدّارَقُطْنِيّ عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم. قال: إسناده صحيح. اهـ.
قال القرطبي:
قوله تعالى: {أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} {أن} في موضع نصب، أي في أن تَقْصروا.
قال أبو عبيد: فيها ثلاث لغات: قَصَرتُ الصلاة وقصّرتها وأقصرتها.
واختلف العلماء في تأويله، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في الخوف وغيره؛ لحديث يَعْلَى بن أُمَيّة على ما يأتي.
وقال آخرون: إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، كما قال عمر رضي الله عنه: تمام غير قصر، وقصرُها أن تصير ركعة.
قال السُّدِّيّ: إذا صلّيت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحلّ إلا أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلّي كلُّ طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئًا، ويكون للإمام ركعتان.
ورُوي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب، وفعله حذيفة بطَبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك.
وروى ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى كذلك في غزوة ذي قَرَد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا.
وروى جابر بن عبد الله: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى كذلك بأصحابه يوم مُحارب خَصَفَة وبني ثعلبة.
وروى أبو هريرة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى كذلك بين ضَجَنَان وعُسْفان.
قلت: وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلى الله عليه وسلم في الحَضَر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة.
وهذا يؤيد هذا القول ويَعْضُده، إلا أن القاضي أبا بكر بن العربيّ ذكر في كتابه المسمى (بالقبس): قال علماؤنا رحمة الله عليهم هذا الحديث مردود بالإجماع.
قلت: وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعَوْه من الإجماع وبالله التوفيق.
وحكى أبو بكر الرازيّ الحنفي في (أحكام القرآن) أن المراد بالقصر هاهنا القصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وبترك القيام إلى الركوع.
وقال آخرون: هذه الآية مبيحة للقصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماءً برأسه، ويصلّي ركعة واحدة حيث توجه، إلى تكبيرة؛ على ما تقدّم في البقرة.
ورجح الطبرِيّ هذا القول وقال: إنه يعادله قوله تعالى: {فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة} أي بحدودها وهيئتها الكاملة.
قلت: هذه الأقوال الثلاثة في المعنى متقاربة، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر، وأن الصَّلاة في حقه ما نزلت إلاَّ ركعتين، فلا قصر.
ولا يُقال في العزيمة لا جناح، ولا يُقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يُقال في صلاة الصبح ذلك.
وذكر الله تعالى القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف؛ هذا ما ذكره أبو بكر الرازيّ في (أحكام القرآن) واحتج به، ورُدّ عليه بحديث يعلى بن أُمية على ما يأتي آنفًا إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} ففي تفسير هذه الفتنة قولان: الأول: خفتم أن يفتنوكم عن إتمام الركوع والسجود في جميعها.
الثاني: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بعداوتهم، والحاصل أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} خرج الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار؛ ولهذا قال يَعْلَى بن أُمية قلت لعمر: مالنا نقصر وقد أَمِنّا.
قال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».
قلت: وقد استدل أصحاب الشافعيّ وغيرُهم على الحنفية بحديث يعلى بن أُمية هذا فقالوا: إن قوله: «ما لنا نقصر وقد أمِنّا» دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات.
قال الكَيا الطبريّ: ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلًا يساوي الذّكْر؛ ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان؛ فإنه لو لم يُضرب في الأرض ولم يوجَد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة الخوف؛ فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله.
وفي قراءة أُبَيّ {أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوَاْ} بسقوط {إن خفتم}.
والمعنى على قراءته: كراهية أن يفتنكم الذين كفروا.
وثبت في مصحف عثمان رضي الله عنه {إن خفتم}.
وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدّو؛ فمن كان آمنًا فلا قصر له.
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم: فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر، فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل أنتم تخافون؟.
وقال عطاء: كان يتم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص وأتم عثمان، ولكن ذلك معلّل بعلل تقدّم بعضها.
وذهب جماعة إلى أن الله تعالى لم يُبح القصر في كتابه إلاَّ بشرطين: السفر والخوف، وفي غير الخوف بالسنّة، منهم الشافعي وقد تقدّم.
وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} ليس متصلًا بما قبلُ، وأن الكلام تَمّ عند قوله: {مِنَ الصلاة} ثم افتتح فقال: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف. اهـ.

.قال الفخر:

المعنى أن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين وازدادت عداوتهم، وبسبب شدة العداوة أقدموا على محاربتكم وقصد إتلافكم إن قدروا، فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم، فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة، وإنما قال: {عَدُوّا} ولم يقل أعداء، لأن العدو يستوي فيه الواحد والجمع، قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77]. اهـ.

.قال القرطبي:

وقوله: {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} كلام معترض، قاله الجُرْجاني وذكره المهدويّ وغيرهما.
وردّ هذا القول القُشَيْرِيُّ والقاضي أبو بكر بن العربي.
قال القُشَيْرِيّ أبو نصر: وفي الحمل على هذا تكلّف شديد، وإن أطنب الرجل يريد الجرجانيّ في التقدير وضرب الأمثلة.